سورة هود - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}
{وَلَئِنْ أذقناه نَعْمَاء} كصحة. وأمن. وجدة {بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم: إنه ينبغي أن تجعل من في قوله سبحانه: {مِنْهُ} [هود: 9] للتعليل أي نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، و{مِنْهُ} مشيرًا إلى هذا المعنى ومنطبقًا عليه كما قال سبحانه: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] ولا يخفى أن تفسير {مِنْهُ} بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول باعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيهًا على سبق الرحمة على الغضب واعتناءًا بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم اللاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة.
وذكر البعض أن في لقظ الإذاقة والمس بناءًا على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيهًا على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرئ {فَرِحَ} بضم الراء كما تقول: ندس. ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 170] {فَخُورٌ} متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في {لَئِنْ} في الآيات الأربع موطئة للقسم، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله:
لئن عادلي عبد العزيز بمثلها *** وأمكنني منها إذن لا أقيلها


{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
{إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} استثناء من {الإنسان} [هود: 9] وهو متصل إن كان أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفًا لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقًا، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج. والأخفش، وأيًا مّا كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقًا أو لاحقًا إيمانًا بالله تعالى واستلام لقضائه تعالى: {وَعَمِلُواْ الصالحات} شكرًا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر. والكفران عدم الشكر كان المستنثى من ذلك ضده ممت اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: {إِلاَّ الذين} إلخ كان نزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكني بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن بشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض بشيخه الطيبي بقوله: وأما دلالة {صَبَرُواْ} على أن العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان: نصف صبر. ونصف شكر، ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه لكن القول ما قالت حذام لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبا اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة لذنوبهم ما كانت {وَأَجْرٌ} ثواب لأعمالهم الحسنة {كَبِيرٌ} وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السموات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لابد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل: وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر.
وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث أن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث أن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد. والثاني أقرب، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: {الر} إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه {الر كِتَابٌ} أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير {ثُمَّ فُصّلَتْ} في العالم الجزئي وجعلت مبنية معينة بقدر معلوم {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ} فلذا أحكمت {خَبِيرٌ} [هود: 1] فلذا فصلت، وقد يقال: الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين {ثُمَّ فُصّلَتْ} أحكامها على أبدان العاملين، وقيل: {أُحْكِمَتْ} بالكرامات {ثُمَّ فُصّلَتْ} بالبينات {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ} عقاب الشرك وتبعته {وَبَشِيرٌ} [هود: 2] بثواب التوحيد وفائدته، وقيل: {نَّذِيرٍ} بعظائم قهره {وَبَشِيرٌ} بلطائف وصله {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} ارجعوا بالفناء ذاتًا، وقيل: {استغفروا رَبَّكُمْ} من الدعاوي {وَتُوبُواْ إِلَيْهِ} من الخطرات المذمومة {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال: المتاع الحسن صفاء الأحوال. وسناء الأذكار. وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق. وظهور اللطائف. والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش شاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال:
مناي من الدنيا لقاؤك مرة *** فإن نلتها استوفيت كل منائيا
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت وفاتكم {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} بالسعي والاجتهاد وبذل النفس {فَضْلِهِ} في الدرجات والقرب إليه سبحانه؛ ويقال: {يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الاستعداد {فَضْلِهِ} في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5] من الأقوال والأفعالوسائر الأحوال، وقيل: {مَا يُسِرُّونَ} من الخطرات {وَمَا يُعْلِنُونَ} من النظرات، وقيل: {مَا يُسِرُّونَ} بقلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بأفواههم، وقيل: مَا يُسِرُّونَ بالليل وَمَا يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى {وَمِنَ الناس مَن جَعَلَ} ضمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم. وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير {يَعْلَمْ} له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير {يَعْلَمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام، وأيًا مّا كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسا يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل.
وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضًا فتفطن {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي ما تتغذى به شبحًا وروحًا، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار؛ ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضًا رزق محسوس. ورزق معقول يعلمه الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] فمستقر الجميع أصلاب العدم {وَمُسْتَوْدَعَهَا} أرحام الحدوث {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض} وما في كل {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي كان حيًا قيومًا كما قال ابن الكمال.
وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى {وَكَانَ عَرْشُهُ} قبل خلق السموات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليًا على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سموات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليًا عليه متعلقًا به تعلق التصوير والتدبير {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9] إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقًا بربه تعالى متوكلًا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودًا وعدمًا، فإن آتاه رحمة شكره أولًا: برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه.
وثانيًا: باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثًا: بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وإلى ذلك أشار من قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولايتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر صلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل كان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلًا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا {وَعَمِلُواْ الصالحات} ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق.


{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلى الله عليه وسلم مما لا يليق قام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشانئية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحى إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن لعل هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث: «لعلنا أعجلناك» واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفًا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحى إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد قاومة عشرة إذ أمروا قاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد. والضرب. والطعان لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال صح لكن في الكشف بعد كلام: إعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذا السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] تقض العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: {وَضَائِقٌ بِهِ} لما يوحي أن للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف {وَضَائِقٌ} قيل: عطف على {تَارِكٌ} وقوله تعالى: {صَدْرَكَ} فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا و{صَدْرَكَ} مبتدأ والجملة معطوفة على {تَارِكٌ}، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى ضائق اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد.
وجواد. وسمين مثلًا: سائد. وجائد. وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم فسامن *** بها وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة {تَارِكٌ} وليس بذلك.
{أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطى ذلك ليتحقق عندنا صدقه.
{أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه لنصدقه، روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبًا أو ائتنا لائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولًا فنزلت، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلًا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت، وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل {أَن يَقُولُواْ} نصب. أو جر وكان الأصل كراهة. أو مخافة {أَن يَقُولُواْ} أو لئلا. أو لأن. أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع عنى الماضي، و{ءانٍ} المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول؛ واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ فإن على مقتضاها، ولا يرد شيء {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم {والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8